.تفسير الآية رقم (30):
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}.ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَأَحْسَنَ فِي عَمَلِهِ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ، أَيْ: جَزَاءَ عَمَلِهِ: بَلْ يُجَازَى بِعَمَلِهِ الْحَسَنِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى.وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [3/ 195]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [3/ 171]، وَقَوْلِهِ:
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [55/ 60]، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى سُؤَالَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ:الْأَوَّلُ:
{أَنْ يُقَالَ أَيْنَ خَبَرُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [8/ 30]؟ فَإِذَا قِيلَ:
{خَبَرُهَا جُمْلَةُ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [18/ 30] تُوَجِّهُ السُّؤَالُ.الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَ رَابِطُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ بِالْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ اسْمُ إِنَّ؟.اعْلَمْ أَنَّ خَبَرَ إِنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، قِيلَ: هُوَ جُمْلَةُ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَعَلَى هَذَا فَالرَّابِطُ مَوْجُودٌ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الثَّانِيَةَ وَاسْمَهَا وَخَبَرَهَا، كُلُّ ذَلِكَ خَبَرُ إِنَّ الْأُولَى. وَنَظِيرُ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ إِنَّ بِإِنَّ وَخَبَرِهَا وَاسْمِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ [22/ 17]، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ أَلْبَسَهُ ** سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُعَلَى أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ فِي خَبَرِ إِنَّ الْأُولَى فِي الْبَيْتِ، وَعَلَى هَذَا فَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ:الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ الرَّابِطَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمْ عَمَلًا؛ كَقَوْلِهِمْ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ: مَنَوَانِ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الْآيَةَ [2/ 234]، أَيْ: يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ.الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَإِذَا كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا يُنَظِّمُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الرَّبْطِ بِالضَّمِيرِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الرَّبْطَ حَاصِلٌ بِالِاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى.
.تفسير الآية رقم (31):
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} إِلَى قَوْلِهِ:
{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، فَذَكَرَ أَنَّهُ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فِيهَا الْأَنْهَارُ، وَيُحَلَّوْنَ فِيهَا أَسَاوِرَ الذَّهَبِ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا الثِّيَابَ الْخُضْرَ مِنَ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ وَهِيَ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَالْحِجَالُ: جَمْعُ حَجْلَةٍ وَهُوَ بَيْتٌ يُزَيَّنُ لِلْعَرُوسِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَى ثَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِ:
{نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [18/ 31]، وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ هُنَا مِنْ صِفَاتِ جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا إِلَى قَوْلِهِ:
{وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [76/ 5- 22]، وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ:
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [56/ 10- 12] إِلَى قَوْلِهِ: لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الآية 38]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ:وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ أَنَّ مَا أَخَفَاهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الْآيَةَ [32/ 17].وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. جَنَّاتُ عَدْنٍ أَيْ: إِقَامَةٌ لَا رَحِيلَ بَعْدَهَا وَلَا تَحَوُّلَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [18/ 108] أَصْلُهُ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ: إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ مَعْنَى السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَالْأَسَاوِرُ: جَمْعُ سِوَارٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَمْعُ أَسْوِرَةٍ، وَالثَّوَابُ: الْجَزَاءُ مُطْلَقًا عَلَى التَّحْقِيقِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لِكُلِّ أَخِي مَدْحٌ ثَوَابٌ عَلِمْتُهُ ** وَلَيْسَ لِمَدْحِ الْبَاهِلِيِّ ثَوَابُوَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الثَّوَابَ فِي اللُّغَةِ يَخْتَصُّ بِجَزَاءِ الْخَيْرِ بِالْخَيْرِ غَيْرُ صَوَابٍ، بَلْ يُطْلَقُ الثَّوَابُ أَيْضًا عَلَى جَزَاءِ الشَّرِّ بِالشَّرِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [83/ 36]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} الْآيَةَ [5/ 60].وَقَوْلُهُ:
{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
{حَسُنَتْ} رَاجِعٌ إِلَى:
{جَنَّاتِ عَدْنٍ}. وَالْمُرْتَفَقُ قَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ هُنَا فِي الْجَنَّةِ:
{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [25/ 75- 76].
.تفسير الآية رقم (35):
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}.ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الْكَافِرِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ، الَّذِي ضَرَبَهُ مَثَلًا مَعَ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِرُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ، الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ عَلَى ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ الْفُقَرَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ دَخَلَ جَنَّتَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَا يَظُنُّ أَنْ تَهْلِكَ جَنَّتُهُ وَلَا تَفْنَى: لِمَا رَأَى مِنْ حُسْنِهَا وَنَضَارَتِهَا؟ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، وَإِنَّهُ إِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُبْعَثُ وَيُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ لَيَجِدَنَّ عِنْدَهُ خَيْرًا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا.وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: مِنْ جَهْلِ الْكُفَّارِ وَاغْتِرَارِهِمْ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَظَنِّهِمْ أَنَّ الْآخِرَةَ كَالدُّنْيَا يُنْعِمُ عَلَيْهِمْ فِيهَا أَيْضًا بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي فُصِّلَتْ:
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [41/ 50]، وَقَوْلِهِ فِي مَرْيَمَ:
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [19/ 77]، وَقَوْلِهِ فِي سَبَأٍ:
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [34/ 35]، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ:
{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [18/ 34].وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا كَذِبَهُمْ وَاغْتِرَارَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ: مِنْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ:
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [23/ 55- 56]، وَقَوْلِهِ:
{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [68/ 44- 45]، وَقَوْلِهِ:
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [3/ 178]، وَقَوْلِهِ:
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} الْآيَةَ [34/ 37]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [111/ 2] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَقَوْلُهُ:
{مُنْقَلَبًا} أَيْ: مَرْجِعًا وَعَاقِبَةً، وَانْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقَوْلُهُ: لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ:
{مِنْهُمَا} بِصِيغَةِ تَثْنِيَةِ الضَّمِيرِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ:
{مِنْهَا} بِصِيغَةِ إِفْرَادِ هَاءِ الْغَائِبَةِ، فَالضَّمِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ تَثْنِيَتِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْجَنَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ:
{جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} [18/ 32]، وَقَوْلِهِ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْإِفْرَادِ رَاجِعٌ إِلَى الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ:
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} الْآيَةَ [18/ 35].فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّهُمَا جَنَّتَانِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ قَالَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَ إِحْدَاهُمَا، إِذْ لَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِيهِمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَمَا أَجَابَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانِ فِي الْبَحْرِ.
.تفسير الآيات (37-38):
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}.بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ الْمَضْرُوبَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ تَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ أُولُو الْمَالِ وَالْجَاهِ مِنَ الْكُفَّارِ، قَالَ لِصَاحِبِهِ الْآخَرِ الْكَافِرِ الْمَضْرُوبِ مَثَلًا لِذَوِي الْمَالِ وَالْجَاهِ مِنَ الْكُفَّارِ، مُنْكِرًا عَلَيْهِ كُفْرَهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلُقَكَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟ لِأَنَّ خَلْقَهُ إِيَّاهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ تَسْوِيَتَهُ إِيَّاهُ رَجُلًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِيمَانَهُ بِخَالِقِهِ الَّذِي أَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَجَعَلَهُ بَشَرًا سَوِيًّا، وَيَجْعَلُهُ يَسْتَبْعِدُ مِنْهُ كُلَّ الْبُعْدِ الْكُفْرَ بِخَالِقِهِ الَّذِي أَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُبَيَّنُ هُنَا بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [2/ 28]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [36/ 22]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} الْآيَةَ [26/ 76- 79]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [43/ 26]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ ضَابِطَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيُظْهِرُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
{بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [18/ 38]، مَعْنَى خَلْقُهُ إِيَّاهُ مِنْ تُرَابٍ: أَيْ: خَلْقُ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ مِنَ التُّرَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ [3/ 59]، وَنَظِيرُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ [22/ 5].وَقَوْلُهُ:
{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أَيْ: بَعْدَ أَنْ خَلَقَ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِهِ، وَجَعَلَهَا زَوْجًا لَهُ كَانَتْ طَرِيقُ إِيجَادِ الْإِنْسَانِ بِالتَّنَاسُلِ، فَبَعْدَ طَوْرِ التُّرَابِ طَوْرُ النُّطْفَةِ، ثُمَّ طَوْرُ الْعَلَقَةِ إِلَى آخِرِ أَطْوَارِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [39/ 6]، وَقَدْ أَوْضَحَهَا تَعَالَى إِيضَاحًا تَامًّا فِي قَوْلِهِ:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [23/ 12- 13].وَمِمَّا يُبَيِّنُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي السَّجْدَةِ:
{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [32/ 6- 9]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
{ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [18/ 38]، كَقَوْلِهِ:
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [16/ 4]، وَقَوْلِهِ:
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [36/ 77]، أَيْ: بَعْدَ أَنْ كَانَ نُطْفَةً سَارَ إِنْسَانًا خَصِيمًا شَدِيدَ الْخُصُومَةِ فِي تَوْحِيدِ رَبِّهِ،وَقَوْلُهُ:
{سَوَّاكَ} أَيْ: خَلَقَكَ مُسْتَوِيَ الْأَجْزَاءِ، مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ وَالْخَلْقِ، صَحِيحَ الْأَعْضَاءِ فِي أَكْمَلِ صُورَةٍ، وَأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [95/ 4]، وَقَوْلِهِ:
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [40/ 64]، وَقَوْلِهِ:
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [82/ 6]، وَقَوْلِهِ رَجُلًا أَيْ: ذَكَرًا بَالِغًا مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَرُبَّمَا قَالَتِ الْعَرَبُ لِلْمَرْأَةِ: رَجُلَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطًا ** غَيْرَ جِيرَانِ بَنِي جَبَلَهْمَزَّقُوا ثَوْبَ فَتَاتِهِمْ ** لَمْ يُرَاعُوا حُرْمَةَ الرَّجُلَهْوَانْتِصَابُ:
{رَجُلًا} عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِسَوَّى عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى جَعَلَكَ أَوْ صَيَّرَكَ رَجُلًا. وَقِيلَ: هُوَ تَمْيِيزٌ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْكَارَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِهَمْزَةِ الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ:
{أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [18/ 37]، مُضَمَّنٌ مَعْنَى الِاسْتِبْعَادِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَبْعَدُ جِدًّا كُفْرُ الْمَخْلُوقِ بِخَالِقِهِ، الَّذِي أَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَيُسْتَبْعَدُ إِنْكَارُ الْبَعْثِ مِمَّنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ رَجُلًا؛ كَقَوْلِهِ:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ [22/ 5]، وَنَظِيرُ الْآيَةِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِبْعَادِ لِوُجُودِ مُوجِبِهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ ** يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَالِأَنَّ مَنْ عَايَنَ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ اقْتِحَامُهَا.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [18/ 38]، بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ قَالَ لِصَاحِبِهِ الْكَافِرِ: أَنْتَ كَافِرٌ؟! لَكِنْ أَنَا لَسْتُ بِكَافِرٍ! بَلْ مُخْلِصٌ عِبَادَتِيَ لِرَبِّيَ الَّذِي خَلَقَنِي؛ أَيْ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِنِّي أَنْ أَعْبُدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مُحْتَاجٌ مِثْلِي إِلَى خَالِقٍ يَخْلُقُهُ، تَلْزَمُهُ عِبَادَةُ خَالِقِهِ كَمَا تَلْزَمُنِي.وَنَظِيرُ قَوْلِ هَذَا الْمُؤْمِنِ مَا قَدَّمْنَا عَنِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ الْمَذْكُورِ فِي يس فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [36/ 22]، أَيْ: أَبْدَعِنِي وَخَلَقَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَمَا قَدَّمْنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ:
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} الْآيَةَ [26/ 77- 78]، وَقَوْلِهِ:
{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} الْآيَةَ [43/ 26- 27].وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ، بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي الْبَعْثِ كُفْرٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [13/ 5].وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَكِنَّا أَصْلُهُ لَكِنْ أَنَا فَحُذِفَتْ هَمْزَةُ أَنَا وَأُدْغِمَتْ نُونُ لَكِنْ فِي نُونِ أَنَا بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى نُونِ لَكِنْ فَسَقَطَتِ الْهَمْزَةُ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا، ثُمَّ أُدْغِمَتِ النُّونُ فِي النُّونِ! وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ ** وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّا إِيَّاكِ لَمْ أَقِلِأَيْ لَكِنْ أَنَا إِيَّاكِ لَمْ أَقِلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْتِ مَا ذَكَرَ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ لَكِنَّنِي فَحَذَفَ اسْمَ لَكِنَّ كَقَوْلِ الْآخَرِ:
فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي ** وَلَكِنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ الْمَشَافِرِأَيْ: لَكِنَّكَ زَنْجِيٌّ فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَى زَنْجِيٌّ بِالرَّفْعِ، وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ لِنَحْوِ هَذَا الْحَذْفِ مِنْ لَكِنَّ أَنَا قَوْلُ الْآخَرِ:
لَهِنَّكِ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيمَةٌ ** عَلَى هَنَوَاتٍ كَاذِبٍ مَنْ يَقُولُهَاقَالَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَهِنَّكَ لِلَّهِ إِنَّكَ، فَحَذَفَ إِحْدَى اللَّامَيْنِ مِنْ لِلَّهِ، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ مِنْ إِنَّكَ نَقْلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} قَرَأَهُ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ فِي الْوَصْلِ لَكِنْ، بِغَيْرِ أَلْفٍ بَعْدَ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ:
{لَكِنَّا} بِالْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوَاهُ الْمُسَيَّبِيُّ عَنْ نَافِعٍ، وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ. وَمَدِّ نُونِ أَنَا لُغَةُ تَمِيمٍ إِنْ كَانَ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: إِنَّ إِثْبَاتَ أَلِفِ أَنَا مُطْلَقًا فِي الْوَصْلِ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَغَيْرُهَا يُثْبِتُونَهَا عَلَى الِاضْطِرَارِ، قَالَ: فَجَاءَتْ قِرَاءَةُ:
{لَكِنَّا} بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَمِنْ شَوَاهِدِ مَدِّ أَنَا قَبْلَ غَيْرِ الْهَمْزَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي ** حَمِيدًا قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَاوَقَوْلُ الْأَعْشَى:
فَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالُ الْقَوَافِي ** بَعْدَ الْمَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارًاوَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ يُحَاوِرُهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْمُحَاوَرَةُ: الْمُرَاجَعَةُ فِي الْكَلَامِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [58/ 1]، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا الْمُحَاوَرَةُ اشْتَكَى ** وَلَكَانَ لَوْ عَلِمَ الْجَوَابَ مُكَلِّمِيوَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا فِي قِصَّتِهِمَا كَبَيَانِ أَسْمَائِهِمَا، وَمِنْ أَيِّ النَّاسِ هُمَا أَعْرَضْنَا عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا سَابِقًا مِنْ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُقْنِعِ عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}.مَعْنَى قَوْلِهِ:
{غَوْرًا} أَيْ: غَائِرًا؛ فَهُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ؛ كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا وَالْغَائِرُ: ضِدُّ النَّابِعِ، وَقَوْلُهُ:
{فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [18/ 41]؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَعْدَمَ مَاءَهَا بَعْدَ وُجُودِهِ، لَا تَجِدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَكَ بِهِ غَيْرَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَأَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [67/ 30]، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الصَّحِيحَ: لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِهِ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ؛ كَمَا قَالَ هُنَا:
{فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [18/ 41].
.تفسير الآيات (43-44):
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَا}.اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قِرَاءَاتٌ سَبْعِيَّةٌ، وَأَقْوَالًا لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، بَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ، يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ وَأَدِلَّتَهُ فِي الْقُرْآنِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} [18/ 43]، قَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَوْلَهُ:
{الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [18/ 44]، قَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ أَيْضًا:
{الْوَلَايَةُ} بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَقَوْلَهُ:
{الْحَقِّ} قَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا أَبَا عَمْرٍو وَالْكِسَائِيَّ بِالْخَفْضِ نَعْتَا:
{لِلَّهِ}، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْوَلَايَةِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:
{الْوَلَايَةُ لِلَّهِ} بِفَتْحِ الْوَاوِ فَإِنَّ مَعْنَاهَا: الْمُوَالَاةُ وَالصِّلَةُ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ:الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَتِلْكَ الْحَالِ تَكُونُ الْوَلَايَةُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ لِلَّهِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا رَأَى الْعَذَابَ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [40/ 84]، وَقَوْلِهِ فِي فِرْعَوْنَ:
{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [10/ 90- 91]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَلَايَةَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ وَتِلْكَ الْحَالِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَيُوَالِي فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَلَايَةَ رَحْمَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [2/ 257]، وَقَوْلِهِ:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [47/ 11]، وَلَهُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَلَايَةُ الْمُلْكِ وَالْقَهْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
{وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [10/ 30]، وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَالْوِلَايَةُ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ؛ كَقَوْلِهِ:
{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [40/ 16]، وَقَوْلِهِ:
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [25/ 26]، وَقَوْلِهِ:
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [22/ 56]، وَعَلَى قِرَاءَةِ:
{الْحَقِّ} بِالْجَرِّ نَعْتًا لِلَّهِ، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ:
{وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} الْآيَةَ [18/ 44]، وَقَوْلِهِ:
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} الْآيَةَ [10/ 32]، وَقَوْلِهِ:
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [24/ 25]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ:
{الْحَقُّ} بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْوَلَايَةِ، عَلَى أَنَّ الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى الْمُلْكِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ.وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ هَذَا الْكَافِرِ: مِنْ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ ذَكَرَ نَحْوَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَقَوْلِهِ فِي قَارُونَ:
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [28/ 81]،وَقَوْلِهِ:
{فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [86/ 10]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ: هُنَالِكَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَالْوَقْفُ تَامٌّ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ:
{هُنَالِكَ} عَامِلُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيِ: الْوَلَايَةُ كَائِنَةٌ لِلَّهِ هُنَالِكَ. وَعَلَى الثَّانِي فَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ:
{مُنْتَصِرًا} أَيْ: لَمْ يَكُنِ انْتِصَارُهُ وَاقِعًا هُنَالِكَ. وَقَوْلُهُ: هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا، أَيْ: جَزَاءً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ:
{عُقْبًا} أَيْ: عَاقِبَةً وَمَآلًا، وَقَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا عَاصِمًا وَحَمْزَةَ:
{عُقُبًا} بِضَمَّتَيْنِ. وَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ:
{عُقْبًا} بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ:
{ثَوَابًا} وَقَوْلُهُ:
{عُقْبًا} كِلَاهُمَا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ بَعْدَ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ الَّتِي هِيَ:
{خَيْرٌ} كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا ** مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلًاوَلَفْظَةُ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلْتَاهُمَا تَأْتِي صِيغَةَ تَفْضِيلٍ حُذِفَتْ مِنْهَا الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْكَافِيَةِ:
وَغَالِبًا أَغْنَاهُمْ خَيْرٌ وَشَرٌّ ** عَنْ قَوْلِهِمْ أُخَرُ مِنْهُ وَأَشَّرُتَنْبِيهٌ:قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِئَةٌ مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفٌ بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ. هَلْ هُوَ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ، وَهَلْ هُوَ الْعَيْنُ أَوِ اللَّامُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحْذُوفُ الْعَيْنُ، وَأَصْلُهُ يَاءٌ. وَأَصْلُ الْمَادَّةِ ف ي أ، مِنْ فَاءَ يَفِيءُ: إِذَا رَجَعَ؛ لِأَنَّ فِئَةَ الرَّجُلِ طَائِفَتُهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي أُمُورِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّاءُ عِوَضٌ عَنِ الْعَيْنِ الْمَحْذُوفَةِ، وَوَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ فِلَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحْذُوفُ اللَّامِ، وَأَصْلُهُ وَاوٌ، مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ: إِذَا شَقَقْتَهُ نِصْفَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَالْفِئَةُ الْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا فَوَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ فِعَةٌ وَالتَّاءُ عِوَضٌ عَنِ اللَّامِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ نَصَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
.تفسير الآية رقم (46):
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}.ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا.وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَنْبِيهُ النَّاسِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِئَلَّا يَشْتَغِلُوا بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} الْآيَةَ [3/ 14- 15]، وَقَوْلِهِ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [63/ 9]، وَقَوْلِهِ:
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [64/ 15]، وَقَوْلِهِ:
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} الْآيَةَ [34/ 37]، وَقَوْلِهِ:
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [26/ 88]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ الِاشْتِغَالُ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَمَّا يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْأَعْمَالُ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ: مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَيْسَرَةَ، وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ، أَوْ أَنَّهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَجَاءَتْ دَالَّةٌ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ لَفْظٌ عَامٌّ، يَشْمَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَالْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى: لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ لِصَاحِبِهَا غَيْرُ زَائِلَةٍ. وَلَا فَانِيَةٍ كَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّهَا أَيْضًا صَالِحَةٌ لِوُقُوعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: خَيْرٌ ثَوَابًا تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيِ: الَّذِي يُؤَمِّلُ مِنْ عَوَاقِبِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، خَيْرٌ مِمَّا يُؤَمِّلُهُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْ زِينَةِ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَأَصْلُ الْأَمَلِ: طَمَعُ الْإِنْسَانِ بِحُصُولِ مَا يَرْجُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَرْيَمَ:
{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [19/ 76]، وَالْمَرَدُّ: الْمَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
{مَرَدًّا} مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: وَخَيْرٌ رَدًّا لِلثَّوَابِ عَلَى فَاعِلِهَا، فَلَيْسَتْ كَأَعْمَالِ الْكُفَّارِ الَّتِي لَا تَرُدُّ ثَوَابًا عَلَى صَاحِبِهَا.